في بداية عملي في مجال freelancing كنت أعتقد أن التفاوض يعني أن أُخفِّض السعر حتى لا أخسر العميل، لكن مع الوقت اكتشفت أن التفاوض الحقيقي يبدأ باحترام قيمة عملي قبل انتظار احترام الآخرين له. أدركت أن السعر ليس مجرد رقم، بل هو ترجمة مباشرة لما أقدمه من جهد وخبرة ووقت والتزام بالجودة.
تأكد لي هذا الدرس عندما طلب أحد العملاء تنفيذ مشروع ضخم في مدة قصيرة وبميزانية لا تناسب حجم العمل. ترددت في البداية، ثم قررت أن أكون واضحة وصريحة، فشرحت له مراحل العمل بالتفصيل: من البحث والتفكير، إلى التنفيذ والتصميم، ثم المراجعة والتعديل. لم أكن أعرف كيف سيتجاوب، لكن المفاجأة أنه قدّر صراحتي وشكرني على التوضيح، ووافق فورًا على السعر الحقيقي الذي قدمته.
حينها فهمت أن العميل الجاد لا يبحث فقط عن الأرخص، بل عن الشخص الذي يعرف قيمة نفسه وقيمة ما يقدمه. ومنذ ذلك الحين تغيّرت نظرتي للتفاوض؛ لم يعد صراعًا حول الأرقام، بل أصبح حوارًا مبنيًا على الوضوح والاحترام، وخطوة ضرورية لصنع علاقات مهنية صحية وناضجة.
لن أعمل بأقل من هذا السعر: رحلة المستقل بين تقدير الذات وضغوط السوق
في عالم العمل الحر، يظل موضوع الأسعار واحدًا من أكثر القضايا جدلًا بين المستقلين والناس الذين يطلبون الخدمات. فبينما يحاول المستقل أن يحافظ على قيمة جهده وخبرته، يجد نفسه في سوق له قوانينه الخاصة، حيث المنافسة شديدة، والأسعار متفاوتة، والمنصات غالبًا أقرب إلى المزاد منها إلى سوق عمل عادلة. هذه الإشكالية لا تواجه المبتدئين فقط، بل تمتد حتى إلى المستقلين ذوي الخبرة، لأن السوق نفسه غير ثابت ويضم شرائح واسعة من العملاء، لكل منهم معاييره وتوقعاته وقدرته على الدفع.
لا يزال كثير من المستقلين، خصوصًا المبرمجين والمبدعين، يشعرون بأنهم محاصرون داخل نطاق أسعار المنصات. فعلى سبيل المثال، حين يكون سعر تنفيذ مشروع معين داخل الشركات يصل إلى 100 ألف جنيه، نجد أن نفس المشروع يُقدَّم على منصات العمل الحر بـ20 ألف فقط، وأحيانًا بأقل. ما يحدث هنا أن العميل يتجه مباشرة إلى من يقدم السعر الأرخص، حتى لو كانت الجودة أقل. فإذا طلب المستقل سعره الحقيقي، سيذهب العميل لغيره. وهنا يظهر السؤال: كيف يمكن للمستقل أن يحمي قيمة عمله دون أن يخسر فرصه في السوق؟
الحقيقة أن العمل الحر — كما يشير اسمه — يقوم على الحرية:
حرية اختيار المشاريع، حرية تحديد السعر، وحرية رفض ما لا يناسبك. وبالتالي، لا يمكن ضبط أسعار السوق ولا منع التفاوت الواضح بين المستويات، لأن كل منصة عمل حر أشبه بمزاد كبير. قد تعرض عملك بسعر عادل تمامًا، لكن عميلًا آخر سيجد مستقلًا مستعدًا لتنفيذ نفس المهمة بنصف السعر أو أقل.
لكن هنا تظهر نقطة جوهرية: السعر المنخفض يجلب عادة عملاء يبحثون عن الأرخص وليس عن الأفضل**. هؤلاء لن يخرجوا أفضل ما عندك، وغالبًا سيُتعبونك بالمراجعات والتعديلات لأنهم في الأصل لا يقدّرون الجودة. أما العملاء الذين يبحثون عن حل حقيقي ومتقن، فهم يعرفون أن الجودة لها ثمن، ومستعدون لدفعه، حتى لو كانوا قلة.
لهذا السبب، يرى البعض أن منصات العمل الحر لا يمكن الاعتماد عليها كدخل أساسي أو مستقر، لأنها في جوهرها — حاليًا على الأقل — تُستخدم كبديل أرخص من توظيف موظف بدوام كامل. إنها ليست “عملًا عن بُعد” بالمعنى الحقيقي الذي يضمن أجورًا عادلة، بل أشبه بسوق مفتوحة للجميع.
ومع ذلك، فإن قبول الأسعار المنخفضة غالبًا لا يأتي من قناعة، بل من خوف. كثير من المستقلين — خصوصًا في البداية — يقبلون أي سعر خوفًا من خسارة العميل، أو لأنهم لا يعرفون كيف يشرحون قيمة ما يقدمونه، وما الذي يميزهم عن العروض الأرخص. البعض يخشى أن تُفهم مطالبته بالسعر العادل على أنها تعالٍ، أو قلة مرونة، وقد يفوّت بذلك فرصًا مهمة لبناء سمعته.
لكن في المقابل، فإن **خفض السعر بشكل مبالغ فيه** — خاصة في البداية — قد يضر بالمستقل على المدى الطويل. لأن العميل الذي يعتاد على سعر منخفض سيصعب إقناعه لاحقًا بالسعر الحقيقي بعد أن ترتفع خبرتك. والأسوأ من ذلك أن المستقل نفسه يبدأ ينظر لجودة عمله بمنظار السعر المتدني، فيستهين بجهده دون وعي.
السوق مليء بالعملاء، ويمكن تقسيمهم ببساطة إلى نوعين:
نوع يريد إنجاز العمل بأي شكل، سواء كانت الجودة ضعيفة أو قوية، وهذا لن يهمه من أنت أو ما تقدم، وسيبحث فقط عن الأرخص.
ونوع آخر يقدّر الجودة قبل كل شيء، وسيبحث عن صاحب الخبرة حتى لو كان السعر أعلى. هذا النوع قد يكون أقل، لكنه هو ما يصنع المسيرة المهنية الحقيقية.
ولحماية نفسه، يحتاج المستقل إلى استراتيجية واضحة. من أهمها أن يقدّم **عرضًا مفصلًا** يظهر ما سيحصل عليه العميل بالتحديد:
- • الوقت الذي سيستغرقه المشروع
- • خطوات التنفيذ
- • الخبرة المطلوبة
- • القيمة الإضافية
- • النتيجة النهائية المتوقعة
- • معايير الجودة
- • وأمثلة من أعمال سابقة
بهذه الطريقة لا يعود السعر مجرد رقم، بل انعكاسًا عادلًا لقيمة واضحة. كما يمكن للمستقل تقديم باقات متعددة بأسعار مختلفة، تُظهر للعميل خيارات الجودة مقابل التكلفة، مما يجعل السعر المرتفع منطقيًا بدل أن يُفهم بلا سياق.
كثيرون أيضًا يؤكدون أن معرض الأعمال (Portfolio) هو أقوى أداة يمتلكها المستقل، لأنه يثبت الجودة أكثر من أي تفاوض أو نقاش حول السعر. معرض أعمال قوي يجذب العملاء الجادين ويفتح أبوابًا لا تفتحها الأسعار المنخفضة. لذلك ينصح المحترفون المبتدئين بالتركيز على بناء معرض أعمال، ولو عبر تنفيذ مشاريع تدريبية أو أعمال تجريبية عالية الجودة.
وبالرغم من أهمية التمسك بالقيمة، إلا أن بداية المشوار تختلف. ففي البدايات تكون التفاوض تقريبًا غير ممكن. المستقل الجديد يحتاج فرصًا، وتقييمات إيجابية، وسمعة أولية. وهذا يدفعه لقبول شروط صعبة أحيانًا. لكن مع مرور الوقت، وازدياد عدد المشاريع المنجزة، تنقلب المعادلة تدريجيًا، ويصبح المستقل هو الطرف الأقوى في التفاوض، حتى لو لم يكن الأفضل في السوق. فالخبرة وحدها، والوقت الطويل في المهنة، يعطيان وزنًا وثقة إضافية.
لا تبع… إجعلهم يشترون ! 10 نصائح تسويقية
وللأسف، ليس كل من يملك تقييمات عالية يقدم عملاً جيدًا. كثير من المستقلين ذوي الخبرة الظاهرية أو التقييمات الكبيرة لا يقدمون جودة حقيقية، وبعضهم يعتمد كليًا على نسخ محتوى جاهز أو استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي دون أي مجهود. وهذا يُظهر مشكلة أخرى: التقييمات ليست دائمًا معيارًا للجودة.
وقد شارك البعض تجارب مؤلمة، مثل حالة شخص اشترى خدمة من مُقدّمة محتوى لها 66 عملية بيع وتقييمات جيدة، ثم صُدم بأن المحتوى مسروق بالكامل من شات جي بي تي دون تغيير كلمة واحدة. مثل هذه التجارب تخلق حالة عدم ثقة في المنصات، وتؤكد أهمية الاطلاع على عينات العمل قبل الدفع.
ورغم ذلك، هناك تجارب إيجابية أيضًا. فبعض العملاء — وإن كانوا نادرين — يرفعون السعر بأنفسهم عندما يدركون حجم الجهد المطلوب. وهذا حدث مع إحدى المشتغلات بالمحتوى، عندما شرحت خطة تنفيذ مشروع ضخم يشمل كتابة 12 كتابًا تعليميًا. بعد رؤية الجهد المطلوب، رفع العميل السعر والمدة بنفسه. هذه التجارب — رغم ندرتها — تبيّن أن التوضيح والشفافية قد يصنعان فارقًا حقيقيًا.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة:
- لكل شخص الحق الكامل في تحديد سعره وقيمة عمله.
- إذا شعرت أن السعر لا يناسب الجهد، فلا داعي لقبوله.
- العميل الذي لا يقدّر قيمتك اليوم، لن يقدّرها غدًا، ولا بعد اكتسابك الخبرة.
- والعميل الذي يبحث عن الجودة سيجدك مهما كان السعر أعلى من المتوسط.
إن الحفاظ على قيمة العمل ليست مسألة غرور، بل مسألة احترام للوقت والخبرة والمهنة نفسها. والمستقل الذي يعرف قيمته، ويستطيع شرحها، ويثبتها بجودة العمل، لن يحتاج إلى صراع دائم حول الأسعار. لأن عمله سيتحدث نيابةً عنه، وسيأتيه عملاء يقدّرون الجودة مهما كانت المنافسة شرسة.
.jpg)



تعليقات
إرسال تعليق